--------------------------------------------------------------------------------
.. الشيخ الضال ..
أحياناً .. يعرف المرء الحق ويرغب في اتباعه ..
لكنه يغرى بمتع الدنيا .. فيظل على معصيته ..
الأعشى بن قيس ..
كان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في الدخول في الإسلام ..
مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا
وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه الصلاة السلام ..
راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
قال : بل دينه خير وأقوم ..
فنظر بعضهم إلى بعض وجعلوا يتشاورون .. كيف يصدوه عن الدين ..
فقالوا له : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. فقال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
فلما رأوا أنه عازم على الإسلام ..
قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
فجعل يفكر في المال .. فإذا هو ثروة عظيمة .. فتغلب الشيطان على عقله .. والتفت إليهم وقال :
أما المال .. فنعم ..
فجمعوا له مائة بعير .. فأخذها .. وارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً ..
فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..
--------------------------------------------------------------------------------
.. سارة ..
الإشارة حمراء .. والطريق مليء بالسيارات .. .لم يتبق على الموعد سوى بضع دقائق ..
تباً لهذه الإشارة إنها طويلة .. يا ليتني كنت في الصف الأول .. لكنت قطعتها ..
الثواني تمر بطيئة كأنها دقائق بل ساعات ..
أنظر إلى الساعة حيناً وإلى الإشارة حيناً آخر ..
أضاءت الإشارة اللون الأخضر .. ضغطت على منبه السيارة أزعجت الجميع .. تحركت السيارات .. تجاوزت الأول ..كدت اصطدم بالثاني .. قيادتي للسيارة أفزعت من حولي..
حاولت أن أسرع .. لكنني لم أستطع ..
مضى الوقت.. وضاع الموعد.. ولم أجد الأصدقاء .. لقد ذهبوا..
إلى أين أذهب ؟.. احترت في الإجابة .. أطلقت زفرة من صدري .. ياليتني كنت أعرف مكانهم..
السيارة تمضي بهدوء .. انطلقت أفكر .. أيقظني منبه سيارة أخرى .. نظرت إلى صاحب السيارة بغضب .. وأشرت إليه بيدي .. تمهل الدنيا لن تطير .. ونسيت حالي قبل دقائق..
قررت أن أقضي السهرة في البيت .. إنها فكرة جيده .. فابنتي الوحيدة مريضة .. والأفضل أن أكون قريباً منها..
أوقفت السيارة أمام محل الفيديو .. نزلت إلى المحل .. اخترت عدة أفلام .. وانطلقت إلى المنزل..
فتحت الباب .. ناديت على زوجتي .. احضري الشاهي والمكسرات..
دخلت إلى الغرفة .. "يالها من زوجة معقدة" .. الآن ستقول لي:"اتق الله يا أحمد".. لقد تعودت على هذه الكلمات حتى تبلدت أحاسيسي نحوها.. لكنها زوجة مطيعة.. طيبة.. تشقى من أجل سعادتي..
دخلت ومعها الشاهي والمكسرات.. ابتسمت في وجهي .. قالت : لابد أنك سئمت السهر مع أصدقائك وتريد أن تجلس في البيت..
قلت : نعم .. تعالي واجلسي .. فرِحت وهمت أن تجلس ..
وقمت أنا إلى جهاز الفيديو والتلفاز .. فانطلقت الموسيقى الصاخبة ..
أرخت المسكينة رأسها وقالت : اتق الله يا أحمد.. وخرجت تجر أذيال الحسرة والهزيمة.. فهي لا تسمع الموسيقى ..
ارتفعت الأصوات في الغرفة .. موسيقى .. صراخ .. ضحكات.. وانطلقت أشرب الشاهي .. وأتناول المكسرات .. وعيناي قد تسمرتا في شاشة التلفاز..
انتهى الشريط الأول .. والشريط الثاني ..
الساعة تشير إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ..
فجأة .. مقبض الباب يتحرك ببطء .. صرخت : ماذا تريدين ؟ .. لم أسمع جواباً..
انفتح الباب.. دخلت ابنتي المريضة ..
فاجأني الموقف .. سكت برهة ولم أتكلم ..
اقتربت مني .. نظرت إليَّ بهدوووء .. ثم قالت : اتق الله يا بابا .. اتق الله يا بابا ..
ثم انصرفت وأغلقت الباب..
ناديتها .. سارة .. سارة .. لم تجب .. انطلقت خلفها..
لا أكاد أصدق..هل هذه ابنتي ؟..
فتحت باب الغرفة.. وجدتها سبقتني إلى فراشها .. ونامت في حضن أُمها.. إنها هي..
عدت إلى غرفة الجلوس .. أغلقت جهاز الفيديو .. صوت ابنتي يملأ الغرفة .. اتق الله يا بابا .. اتق الله يا بابا ..
قشعريرة سرت في جسدي .. تصبب العرق من رأسي..
لا أدري ماذا أصابني ..
ما عدت أسمع إلا صوتها .. ولا أرى إلا صورتها .. كلماتها اخترقت كل الحواجز الجاثمة على صدري منذ زمن بعيد .. ترك صلاة .. معاصٍ .. دخان .. أفلام خليعة ..
أيقظتني من الغفلة.. تسارعت نبضات قلبي .. وألقيت بجسدي على الأرض..
حاولت أن أنام .. لكنني لم أستطع .. مضى الوقت سريعاً ..
صور من الماضي استعرضتها أمامي .. ومع كل صورة اسمع صوت ابنتي يتردد .. اتق الله .. اتق الله ..
وهنا .. ارتفع صوت الأذان .. اهتزت جوانحي .. ارتعدت فرائصي ..
رعشة سرت في أطرافي .. جعل يردد : " الصلاة خيرٌ من النوم " .. قلت : صدقت .. الصلاة خير من النوم .. أوووه .. لقد كنت نائماً كل هذه السنين..
توضأت وخرجت إلى المسجد .. مشيت في الطريق وكأني لا أعرفه ..
كأن نسائم الفجر تعاتبني أين أنت ؟ ..
وطيور السماء تقول : مرحباً بالنائم الذي استيقظ أخيراً..
دخلت المسجد .. صليت ركعتين .. وجلست اقرأ القرآن ..
تلعثمت في القراءة ..
منذ زمن لم أقرأ القرآن ..
شعرت أن القرآن يسألني : لم هجرتني منذ سنوات .. ألستُ كلام ربك ..
أخذت أردد في سورة الزمر : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) .. عجباً .. جميعاً .. ما أرحم الله بنا ..
تمنيت أن استمر في القراءة .. لكن المؤذن .. أقام الصلاة .. تجمدت في مكاني لحظة ثم تقدمت مع الناس .. وقفت في الصف .. وكأنني غريب..
انتهت الصلاة..جلست في المسجد حتى أشرقت الشمس ..
عدت إلى البيت.. فتحت باب الغرفة .. ألقيت نظرة على زوجتي وسارة ..
كانتا نائمتين .. تركتهما وخرجت إلى العمل ..
ليس من عادتي الذهاب مبكراً إلى العمل ..
تفاجأ الزملاء بوجودي ..
انطلقت عبارات التهنئة ممزوجة بالسخرية ..
لم أبال بما يقولون .. تسمرت عيناي على الباب .. أنتظر قدوم إبراهيم ..
زميلي في المكتب .. والذي طالما نصحني ..
إنه شخص طيب الأخلاق .. حسن المعاملة ..
حضر إبراهيم .. فقمت من مكاني استقبله .. لم يصدق عينيه ..
سألني : أنت أحمد ؟!!..
قلت : نعم .. جذبت يده .. وقلت : أريد أن أحدثك ..
قال : لا بأس .. نتحدث في المكتب .. قلت : لا .. نذهب إلى الاستراحة..
صمت إبراهيم .. وراح يصغي لكلماتي .. حدثته بحديث البارحة ..
أمتلأت عيناه بالدموع .. وابتسم ابتسامة عريضه .. قال لي :
ذاك نور أضاء قلبك فلا تطفئه بظلمة المعاصي..
كان يوماً حافلاً بالنشاط والجدية .. رغم أني لم أنم منذ البارحة ..
ابتسامة تعلو وجهي .. تفانٍ في العمل ..
المراجعون يتجهون نحوي .. يطلبون مني مساعدتهم .. بعضهم قال لي :
ما هذا النشاط؟!..أجبته : إنها صلاة الفجر في المسجد..
مسكين إبراهيم .. كان يتحمل العبء الأكبر من العمل .. أما أنا فقد كنت أنام ..
لم يشتك ولم يتذمر .. ياله من إنسان طيب ..
نعم إنه الإيمان عندما تخالط حلاوته القلوب..
مضى الوقت ولم أشعر بالتعب والإرهاق ..
قال لي إبراهيم : أحمد .. يجب أن تذهب إلى البيت .. فإنك لم تنم منذ البارحة .. وسأقوم بعملك ..
نظرت إلى الساعة .. لم يبق على أذان الظهر سوى دقائق .. قررت البقاء..
أذن المؤذن .. فسارعت إلى المسجد .. جلست في الصف الأول ..
شعرت بالندم على الأيام التي كنت أهرب فيها من العمل وقت الصلاة..
بعد الصلاة انطلقت إلى البيت ..
في الطريق انتابني شعور بالقلق .. يا ترى كيف حال سارة ؟..
شعرت بانقباض .. لا أدري لماذا ؟!
أحسست أن الطريق هذه المرة طويل .. ازداد الخوف .. رفعت رأسي إلى السماء ..
دعوت الله أن يعجل بشفاء ابنتي..
وصلت إلى البيت .. فتحت الباب .. ناديت زوجتي .. لم أسمع جواباً ..
دخلت الغرفة مسرعاً ..
زوجتي منطوية على نفسها تبكي ..
التفتت إليَّ .. صرخت وهي تبكي : لقد ماتت سارة ..
لم أتبين ما تقول .. اندفعت نحو سارة .. ضممتها إلى صدري ..
حاولت حملها .. سقطت يدها نحو الأرض .. جسمها بارد ..
كذلك يداها وقدماها .. نبضها .. أنفاسها .. لم أسمع شيئاً ..
نظرت إلى وجهها .. نورٌ يتلألأ .. كأنه كوكب دري ..
ايقظتها .. حركتها .. هززتها ..
صرخت أمها : سارة .. سارة .. لقد ماتت .. ماتت .. وانخرطت في البكاء..
لم أصدق ما أرى .. كأنه حلم ..
انهمرت الدموع من عيني .. أخذت أشهق ..
أنظر إلى وجهها الجميل .. وشعرها الناعم ..
أقبِّل فمها الصغير .. كأنها تردد الآن : عيب عليك .. عيب عليك .. يا بابا ..
تذكرت أن هذه مصيبة .. أخذت أردد .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
اتصلت بإبراهيم .. قلت له : تعال فوراً .. لقد ماتت سارة ..
النساء في الداخل مع زوجتي يغسلن ابنتي ..
انتهين من تغسيلها .. لففن على جسدها الطاهر خرقة بيضاء ..
نادتني زوجتي ..
دخلت كي أودع سارة الوداع الأخير .. كدت أسقط على الأرض .. تماسكت ..
قبلتها على جبينها ..
عاهدتها على الثبات حتى الممات .. نظرت إلى أمها .. فإذا هي زائغة العينين .. شاحبة الوجه .. تنتفض ..
قلت لها : لا تحزني .. فقد ذهبت إلى الجنة بإذن الله .. هناك سنلتقي .. فشمري كي تشفع لنا ..
ثم قرأت قوله تعالى : {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كل امرئٍ بما كسب رهين}..
بكت الأم وبكيت أنا..
صلينا عليها صلاة الجنازة .. ثم سرنا بها إلى المقبرة ..
أنظر إلى الجنازة وكأنني أنظر إلى النور الذي أضاء لي حياتي..
وصلنا المقبرة .. المكان موحش .. مخيف .. توجهنا إلى القبر ..
وقفت على شفير القبر .. هنا سأضع ابنتي .. أمسك إبراهيم بكتفي وقال : اصبر يا أحمد..
نزلت إلى القبر ..
إنها دارك يا أحمد .. ربما اليوم وربما غداً ..
ماذا أعددت لهذه الدار ..
ناداني إبراهيم : أحمد خذ البنت .. وضعتها على صدري .. وددت لو أدفنها فيه ..
ضممتها .. قبلتها ..
ثم وضعتها على شقها الأيمن .. وقلت : بسم الله وعلى ملة رسول الله ..
صففت اللبن .. سددت كل المنافذ ..
خرجت من القبر .. بدأ الناس يهيلون التراب .. لم أملك دموعي..
--------------------------------------------------------------------------------
.. ذكريات تائب ..
هو شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
وهو يحكي ذكريات شبابه ..
نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
قال كعب – كما في الصحيحين - :
وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال كعب :
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
ثم قال له : تعال ..
فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
قال : بلى ..
قال : فما خلفك ؟!
فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
ثم سكت كعب ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
قال كعب :
فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..
* * * * * * * * *
ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
قال كعب :
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
وآتي المسجد فأدخل ..
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..
* * * * * * * * *
ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
وهو الرجل الشريف في قومه ..
بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
فإذا هو يقول : من يدلني على كعب بن مالك .. ؟
فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
عجباً !! من ملك غسان ..!!
إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
هذا أيضاً من البلاء والشر ..
ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
يسلم فلا يرد عليه السلام ..
ويسأل فلا يسمع الجواب ..
ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..
* * * * * * * * *
ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
فلما اكتملت أربعون يوماً ..
فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..
* * * * * * * * *
ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
قال كعب رضي الله عنه :
فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
ودخلت .. فسلمت عليه ..
فوالله ما رد علي السلام ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فسكت ..
فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
فقال : الله ورسوله أعلم ..
سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
..
* * * * * * * * *
وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
فانطلق الناس يبشرونهم ..
قال كعب :
وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
فبينما أنا على ذلك ..
إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
وكان الصوت أسرع من الفرس ..
فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
والله ما أملك غيرهما ..
واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
فلما جلست بين يديه ..
قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
فقال عز وجل :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..
--------------------------------------------------------------------------------
.. في بطن الحوت ..
كل الناس يذكرون الله عند الشدائد ..
لكن منهم من يذكره ويطيعه .. فإذا زالت الشدة عصاه ونساه ..
ومنهم من يستمر صلاحه وتوبته ..
يونس عليه السلام .. دعا قومه إلى الإيمان .. فأعرضوا وتكبروا .. فغضب .. وركب البحر مع سفينة .. فلما ثقلت بهم خافوا أن يغرقوا جميعاً .. فعلموا أنه لا بد أن يخففوا الحمل بإلقاء أحد ركابها إلى البحر .. عملوا القرعة مراراً فوقعت على يونس .. ألقوه في البحر .. فالتقمه الحوت .. ثم نزل به إلى الأعماق ..
كل شيء حدث بسرعة .. يونس في الظلمات ..
تسمع حوله .. فإذا به يسمع تسبيح الحصى الذي في قعر البحر ..
فانتفض .. ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ..
فقرعت كلماته أبواب السماء .. فنزل عليه الفرج ..
هذا خبر يونس النبي عليه الصلاة والسلام ..
أما يونس اليوم فيقول :
كنت شاباً أظن أن الحياة .. مال وفير .. وفراش وثير .. ومركب وطيء ..
وكان يوم جمعة .. جلست مع مجموعة من رفقاء الدرب على الشاطئ ..
وهم كالعادة مجموعة من القلوب الغافلة ..
سمعت النداء حي على الصلاة .. حي على الفلاح ..
أقسم أني سمعت الأذان طوال حياتي .. ولكني لم أفقه يوماً معنى كلمة فلاح ..
طبع الشيطان على قلبي .. حتى صارت كلمات الأذان كأنها تقال بلغة لا أفهمها ..
كان الناس حولنا يفرشون سجاداتهم .. ويجتمعون للصلاة ..
ونحن كنا نجهز عدة الغوص وأنابيب الهواء ..
استعداداً لرحلة تحت الماء..
لبسنا عدة الغوص .. ودخلنا البحر .. بعدنا عن الشاطئ ..
حتى صرنا في بطن البحر ..
كان كل شيء على ما يرام .. الرحلة جميلة ..
وفي غمرة المتعة .. فجأة تمزقت القطعة المطاطية التي يطبق عليها الغواص بأسنانه وشفتيه لتحول دون دخول الماء إلى الفم .. ولتمده بالهواء من الأنبوب .. وتمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي .. وفجأة أغلقت قطرات الماء المالح المجرى التنفسي... وبدأت أموت ..
بدأت رئتي تستغيث وتنتفض .. تريد هواء .. أي هواء ..
أخذت اضطرب .. البحر مظلم .. رفاقي بعيدون عني ..
بدأت أدرك خطورة الموقف .. إنني أموت ..
بدأت أشهق .. وأشرق بالماء المالح..
بدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيني ..
مع أول شهقة .. عرفت كم أنا ضعيف ..
بضع قطرات مالحة سلطها الله علي ليريني أنه هو القوي الجبار ..
آمنت أنه لا ملجأ من الله إلا إليه... حاولت التحرك بسرعة للخروج من الماء .. إلا أني كنت على عمق كبير ..
ليست المشكلة أن أموت .. المشكلة كيف سألقى الله ؟!
إذا سألني عن عملي .. ماذا سأقول ؟
أما ما أحاسب عنه .. الصلاة .. وقد ضيعتها ..
تذكرت الشهادتين .. فأردت أن يختم لي بهما ..
فقلت أشهـ .. فغصَّ حلقي .. وكأن يداً خفية تطبق على رقبتي لتمنعني من نطقها ..
حاولت جاهداً .. أشهـ .. أشهـ .. بدأ قلبي يصرخ : ربي ارجعون .. ربي ارجعون .. ساعة .. دقيقة .. لحظة .. ولكن هيهات..
بدأت أفقد الشعور بكل شيء .. أحاطت بي ظلمة غريبة ..
هذا آخر ما أتذكر ..
لكن رحمة ربي كانت أوسع ..
فجأة بدأ الهواء يتسرب إلى صدري مرة أخرى ..
انقشعت الظلمة .. فتحت عيني .. فإذا أحد الأصحاب ..
يثبت خرطوم الهواء في فمي ..
ويحاول إنعاشي .. ونحن مازلنا في بطن البحر ..
رأيت ابتسامة على محياه .. فهمت منها أنني بخير ..
عندها صاح قلبي .. ولساني .. وكل خلية في جسدي ..
أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمد رسول الله .. الحمد لله ..
خرجت من الماء .. وأنا شخص أخر ..
تغيرت نظرتي للحياة ..
أصبحت الأيام تزيدني من الله قرباً .. أدركت سرَّ وجودي في الحياة .. تذكرت قول الله ( إلا ليعبدون ) ..
صحيح .. ما خلقنا عبثاً ..
مرت أيام .. فتذكرت تلك الحادثة ..
فذهبت إلى البحر .. ولبست لباس الغوص ..
ثم أقبلت إلى الماء .. وحدي وتوجهت إلى المكان نفسه في بطن البحر ..
وسجدت لله تعالى سجدة ما أذكر اني سجدت مثلها في حياتي ..
في مكان لا أظن أن إنساناً قبلي قد سجد فيه لله تعالى ..
عسى أن يشهد علي هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته اللهم أمين ..
--------------------------------------------------------------------------------
وغدراتي وفجراتي !!
ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فقال صلى الله عليه وسلم: تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
فقال : نعم ..
فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .
--------------------------------------------------------------------------------
هل تطرحه في النار ؟!
الله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
في الصحيحين :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
فبينما هي على ذلك ..
إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
التفت إلى أصحابه ثم قال :
أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه ..
وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر على أن لا تطرحه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : والله .. لله .. أرحم بعباده من هذه بولدها ..