فإن الكتب هي ثاني طرق التعلم ، ولذا فقد عني بها العلماء قديماً وحديثاً ،
ونظراً لتخبط بعضٍ في طرق الاستفادة منها ؛ كان لا بد من بيان أهميتها ،
وكيفية الاستفادة منها ، ومعرفة قواعد مهمة لفهم كلام أصحابها .
وسداً لهذه الحاجة ، فقد ألقى فضيلة الشيخ الفقيه صالح بن محمد الأسمري ـ
حفظه الله ـ محاضرتين في ذلك :
الأولى : بعنوان (قراءة الكتب لماذا؟ وكيف؟ ) .
الثانية : بعنوان (قواعد فهم كتب العلماء ) .
وقد جمعتا في (ألبوم) بعنوان منهجية قراءة الكتب) .
ولأهمية تلكم المحاضرتين أحببنا تلخيصها وتهذيبها في هذه الصفحة المباركة.
قراءة الكتب لماذا؟ وكيف؟
قراءة الكتب لماذا ؟ :
ـ لا شك أن قراءة الكتب تعود على المتعلم بفائدة عظيمة .
وقد دل على ذلك دلائل كثيرات ،منها مايعود إلى الشرع ، ومنها ما يعود إلى
النظر.
قراءة الكتب كيف؟.
هناك أمور ثلاثة :
1- أصول موصولة .
2- متممات مكملة .
3- وصايا موجهة .
أولاً : أصول موصلة
قراءة أي كتاب يقوم على ركائز ثلاث لابد منها :
الركيزة الأولى : أن يكون القارئ على معرفة بلغة الكتاب .
الركيزة الثانية : أن يحدد القارئ هدفه من قراءة الكتاب .
والأهداف التي يتوخاها الإنسان عند قراءته لكتاب ما على أنواع غير محصورة
فمنها : قراءة تسلية ، قراءة فهم وتدبر لمعرفة مقصود الكتاب ...
الركيزة الثالثة : المعرفة بالطريقة التي تتناسب مع الهدف.
وتختلف الطرائق باختلاف الأهداف ، فمن أراد أن يختصر كتاباً ـ مثلاً ـ فله
طريقة معينة ، وهكذا على حسب اختلاف الأهداف .
ثانياً : متممات مكملة
هي محصلة ركائز ثلاث :
الركيزة الأولى : التدرج في القراءة وخطواتها .
فلا بد في البداءة بالقراءة في الكتب الواضحة قبل الغامضة المشكلة .
وها هنا أمران مهمان عند ذكر التدرج :
ـ الأول : أهمية حفظ أصول العلم ، فإن به يحصل ضبط المسائل والفصول.
ـ الثاني : أنه من الآفات أن يكون الإنسان صاحب تناتيف من العلوم ، فينظر في
علوم كثيرة ، ولا يبلغ الإمامة في شيء منها.
الركيزة الثانية : القراءة الصحية .
يذكرها أهل الصحة والتطبب ، ومرجعها إلى مراعاة ثلاثة أشياء:
أولها : هيئة القراءة : وينبغي أن يجتمع فيها شرطان :
(1) أن تكون مريحة للعين الباصرة . (2) أن تكون مريحة البدن .
ثانيها: مراعاة الوقت : بأن يكون زمن القراءة فيه أريحية نفس وراحة تامة .
ثالثها: المكان : بأن يكون خالياً من الضجيج والأصوات المزعجة ، أو الصور
التي تأخذ النفس وتأسرها .
الركيزة الثالثة : أن يتعرف المرء على جهات الخلل في أي كتاب يقرؤه .
فإن هناك جهات ثمان ، لا يمكن أن يأتي الخلل إلى المكتوب إلا عن طريق واحد
منها ، حصرها وعدها عداً الإمام الماوردي - يرحمه الله - كما في " أدب الدنيا
والدين " ،وخلاصتها:
1- إسقاط ألفاظ من الكلام .
2- زيادة ألفاظ أثناء الكلام يُشكل بها معرفة الصحيح غير الزائد من معرفة
السقيم الزائد فيصير الكل مشكلاً .
3- إسقاط حروف من أثناء الكلمة الواحدة والكلمة نوعان :
- كلمة إذا سقط منها حرف بان عند تلاوتها لترددها أو شهرتها .
- كلمة أخرى إذا سقط منها حرف انقلبت إلى كلمة أخرى تتلى على معنى آخر .
4- زيادة حروف في أثناء الكلمة .
5- وصل الحروف الموصولة ، وفصل الحروف الموصولة .
6- تغيير الحروف عن أشكالها ، وإبدالها بأغيارها .
7- ضعف الخط عن تقويم الحروف على أشكالها الصحيحة ، حتى تصير العين الموصولة
كالفاء ـ مثلاً ـ .
8- إغفال النقط والأشكال التي تتميز به الحروف المشتبهة ، وذلك أن الأوائل لم
يكونوا ذوي عناية بتنقيط ما كان معجماً من الحروف .
ثالثاً : وصايا موجهة
الوصية الأولى : لابد لطالب العلم أن يكوّن مكتبة في منزله ومقر وجوده ؛لأنها
آلة التحصيل.
الوصية الثانية : ألا يقدم على شراء كتاب إلى بعد الاختيار ، بأن يكون
معتمداً عند أهل فنه .
والاختيار يختلف باختلاف الناس ، فمنهم العالم القادر على تقويم الكتب ،
ومنهم من ليس كذلك ، فهؤلاء يأخذون مبدأ الاستشارة في شراء الكتب .
والاستشارة لها شرط وهو أن توقف المستشار على مبتغاك مع كونك تختار المستشار
، ولها أدب وهو أن تتأدب مع من تستشيره ، فلا تخالفه بعد الاستشارة لهوى نفس
لا شيء آخر .
ومن الكتب التي تعين في معرفة أفضل كتب الفن ، ما يسمى
بـ ( الكتب الوصفية ) وهي التي تعنى بتوصيف كتب فنّ معين ، تستقرئ قديمها
وحديثها ، ثم تقومه في ميزان النقل والتقويم الحق ، فمثلاً في النحو تجد ـ
مثلاً ـ كتاب " نشأة النحو " لطنطاوي .
الوصية الثالثة : ينبغي عند شراء الكتب أن تراعي أمور ثلاثة :
1- أن يعلم أن تكوين مكتبة لطالب علم لا تأتي في عشية وضحاها في حال جملة
الناس ، وهناك صنف من الناس قد كساه الله بالثراء فله أن يفعل مكتبة في عشية
وضحاها .
2- إذا أراد أن يشتري كتاباً عاجلاً فليقدم نوعين من الكتب :
- الكتب الأصلية في فنها .
- ما يحتاجه من كتب في دراسة أو حلقة علم أو نحو ذلك .
3- عند شراء المرء الكتاب لابد أن تراعى دور النشر التي ثمنها زهيد حتى يضع
بقية النقود في كتب أخرى ، وأن يتفقد الكتاب الذي اشتراه وخلوه من العيوب
الطباعية ، ثم يتأكد من هو الكتاب المطلوب لا غيره.
الوصية الرابعة : تتعلق بإعارة الكتب .
فينبغي ألا يكون الإنسان بخيل النفس ، فيحبس الكتب عمّن يستعيرها منه ، وهو
يريد أن يأخذها لمعرفة وهو مستحق لذلك العطاء وهو واثق به ، وهو أدب رفيع قلّ
من تخلّق به .
إلا أن هناك شروطاً ثلاثة عند الإعارة :
1- أن يكون المستعير مستفيداً من الكتاب الذي طلبه ، ولا يكون متفكهاً بالطلب
.
2- أن تكون على ثقة من إرجاع الكتاب إليك من قبل المستعير منك .
3- أن تُعَلّم كتابك بعلامة من العلامات حتى لا يذهب عنك ، كإثبات ملكيتك له
، أو وضع ختم لك ونحو ذلك .
وللاستعارة آداب حاصلها أربعة:
1. أن تصون الكتاب إن استعرته من غيرك .
2. الشكر لمن أعارك كتاباً .
3. ألا يطيل المرء بقاء كتاب عنه وقتاً طويلاً .
4. ألا يتصرف بالكتاب الذي استعاره بعد استئذان صاحبه .
آخر الوصايا : تتعلق بآداب متفرقات مع الكتب :
أولاً : صون الكتاب وحفظه من المعايب والمثالب.
ثانياً : مراعاة المكان الذي يوضع فيه الكتاب ونظافته ونزاهته.
ثالثاً : تتعلق بترتيب الكتب وفهرستها عند تكوين خزانة كتبية في بيت أو نحوه
، فينبغي أن يرتبها المرء على حسب مقدار علومها .
رابعاً : كتابة الحواشي والتعليقات وفق آدابها المعتبرة، ومن ذلك :
- أن يكتب التصحيحات لخطأ مطبعي أو نحوه ، على هامش الكتاب على جانبه ويضع
بعدها ( صح ) كما هو هدي المحدثين .
- إذا قرأ كتاباً ثم أراد أن يقف ويرجع إليه من وقت لآخر فيكتب عند المكان
الذي وقف عنده ( بلغ ) كما هو هدي المحدثين .
- إذا أراد أن يكتب فائدة على كلام مرّ عليه ، أو جملة قرأها في كتاب ،
فيكتبها بادئاً بجهتها اليمنى ، بادئاً من الحاشية ، ثم يعلي الكتابة نحو
أعلى الصفحة حتى إذا أراد أن يكتب شيئاً بعد ذلك السطر وجد له متسعاً وهي من
الطرائق المستحسنة التي يفعلها المحدثون وغيرهم .
- وأن تكون بخط واضح .
قواعد لفهم كتب العلماء
لا شك أن تصحيح مسار الفهم ، وتصويب سبيل المعرفة أمر مهم جداً ، ولذا كان
حسن الفهم من أعظم النعم .
وجميع مايراد تفهمه يحصل بطريقتين :
الأولى : بيان المتكلم عن مراده ومفهومه .
والثانية : تمكن السامع من تفهُّم الشيء .
إلا أن الفهم له آفته كما أن للكتب آفاتها ، فلا بد من قواعد تضبط ذلك ، وهي
كالتالي:
القاعدة الأولى : البنية المعرفية للقارئ لكتابٍ علمي تأصيلي لها أثرها
الواضح في حسن الفهم لمصطلحات وأبواب ومسائل الكتاب.
ذلك أن مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين نافع في بابه بشروط ، منها : فهم
مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ، وذلك يحصل أخذ العلم مشافهة
عن العلماء أو مما هو راجع إلى ذلك ، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا
دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد .
القاعدة الثانية : الرجوع إلى المعروف من حال المصنف ومذهبه وحاله عن وجود
عبارات مشتبهة في كلامه.
القاعدة لثالثة : مراعاة أحوال المؤلف وأطواره ـ إن مر بأطوار ـ في منهجه
الاعتقادي أو الفقهي أو نحو ذلك .
القاعدة الرابعة : مراعاة التراجعات العلمية . إذ إن الرجوع إلى الحق فضيلة ،
وكان أسلافنا الأخيار يرجعون إلى الحق إذا بان لهم ، فعندما يصطحب الناظر في
الكتب لهذه الحقيقة يعلم يقيناً أن المصنف لكتاب ، قد يرجع عن قول قرره في
الكتاب نفسه أو في بعض نسخه المتأخرة أو في أي كتاب آخر ، ولذا فلا ينبغي
التسرع في نقل قول عالم من كتاب إلا إذا علم أنه أقره ولم يتراجع عنه .
القاعدة الخامسة : حمل المُجمل من كلام المؤلف على المُفَسَّر في الكتاب نفسه
أو في كتابٍ آخر له.
القاعدة السادسة : تفهم الكلام حسب الدلائل المعتبرة في فهم كلام المؤلفين.
إذ إن الدلائل نوعان:دلائل معنوية ،ودلائل لفظية ، والدلائل اللفظية ثلاث
:دلالة موافقة ، ودلالة لزوم ، ودلالة تضمن .
وإنما يفهم من خلال دلالة المطابقة والتضمن ، أما دلالة اللزوم فلا يُعمل بها
على إطلاق إلا في مجالين :
الأول : أن يلزمه صاحبه إذا ذكر له اللازم .
والثاني : أن يدل عليه ما جرى مجرى لفظه من تنبيه أو إيماء أو نحوهما من
الدلالات اللفظية .
القاعدة السابعة : مراعاة موارد الكلام للناظر في الكتب ، فقد يكون مورد
الكلام وعظاً أو محاجّة لخصم ، أومناظرة لمخالف أو نحو ذلك ، فإنه قد يتنزل
الإنسان في المناظرات ما لا يتنزله في باب التقرير ، وهكذا .
فوائد تتعلق بمطالعة الكتب
الفائدة الأولى : أن تكون القراءة للكتاب بنية عدم الرجوع إليه مرة أخرى ،
وفي ذلك يبادر إلى استنفار قواه العقلية .
الفائدة الثانية : مراعاة الزمن عند قراءة الكتب ، فإن العمر قصير والعلم
كثير ، فينبغي على الإنسان أن يعوِّد نفسه على سرعة القراءة مع تفهم .
الفائدة الثالثة : تحديد الغاية من قراءة الكتاب من اختصارٍ أو تلخيصٍ أو
جردٍ لاستخراج أشياء معينة ، وبحسب تحديد الغاية تكون الطريقة المناسبة
للقراءة .
الفائدة الرابعة : الانتقاء والاختيار ، فإن الكتب كثيرة ، بل هي في كل فنّ
كتب كثيرة .
خـاتـــمة
ورغم أهمية الكتب وعِظمِ نفعها ، فإن الاعتماد عليها وحدها دون شيخٍ غيرُ
نافع ، ولذلك يقول الشافعي - يرحمه الله - : ( لا تأخذ العلم عن صحفي ، ولا
القرآن عن مصحفي ) .
ويقول ابن خلدون - يرحمه الله - في :"مقدمته" بعد ذكره قواعد عظمى في أخذ
العلوم : ( إلا أن التلقي بالمباشرة والأخذ عن العلماء ، هو الذي يورث تمام
الملكات ).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه